اتذكر حين دخل رجل "قرية" عن طريق الصدفة ، طريقها وَعِر لا يفضل الناس المُضي فيه ، فلا يعلم احد بوجودها :
في زمانٍ ما ، ومكانٍ ما ...كان اهل قرية تدعي أشتون إذا ارادوا الذهاب إلي احدي المدن الكبري المُطلة علي المحيط الاطلنطي ، يُخير المسافرون منهم بين طريقين ، احداهما قصير وملييء بالمخاطر ووعر والاخر طويل وآمن .. فظلّ الناس يسردون الاساطير حول خطورة الخوض في هذا الطريق القصير الوعر ، ويفضلون الطريق الاخر الطويل ، وعندما قرر احد الشبان الشجعان او البائسين ان يخوض في هذا الطريق الوعر بدلاً من هذا الطويل الآمن ، كنوع من الاستكشاف والتبيّن من صحة تلك الاساطير التي يسردها الناس او بدافع اليأس وفقدان الشهية للحياة ، قرر خوض مغامرة ، وبقلبٍ شجاع مَشي الشاب في ذلك الطريق غير مكترثاً بما سيلاقيه ...وبعد ان تخطي الكثير من الصعاب والمخاطر ، فوجيء بوجود قرية غريبة في منتصف الطريق...وعندما قرر ان يدخلها ، ..لمح بريق ونسيم جميل جداً من بعيد ..ولاحظ عند باب القرية وجود حبل طويل يربط ما بين دفتي الباب ...مُعلّقً فيه الكثير من الاحذية ..استقبلته احدي الفتيات فقالت له اخلع حذائك واهلاً بك في قريتنا ...
وعندما سأل الفتاة عن سر عدم إرتداء اهل القرية احذيتهم وبدلاً من ذلك - تعليقها علي بوابة القرية ..قالت له ان قريتنا تدعي سبكتر وهي اجمل وانظف قرية بالعالم كله ..
وبعد عدة ايام قضاها في القرية - قرر هذا الشاب ان يعيش مع اهل القرية فترة من الزمن ، فوجد ان اهلها طيبون ، لا يخطئون ، لا يغضبون ، دائماً في سلام وود وحب ، كل ما في القرية نظيف وجميل ومُنظّم ، قرية بلا مشاكل ، بلا ماضي ولا حاضر ، كأنها فجوة زمنية في حلم جميل ... او قطعة من الجنة .. ..
صادف هذا الشاب اثناء مدة بقاءه في القرية احد الشعراء المشهورين - وكان قد قرأ احد قصائدهم من قبل واعجبته ، فتعرف الشاب عليه وقال له كيف علمت بهذا المكان ؟ ، لابد ان هذا المكان هو سر إختفاءك وتوقفك عن كتابة الشعر ، قال له الشاعر انا مثلك قررت ان اخوض المغامرة واستكشف ما وراء هذا الطريق ...وصادفني وجود مثل تلك القرية فمكثت فيها مدة طويلة..هي اجمل مكان علي الإطلاق ، لا يمكن ان تجد مكان افضل منه ..هذا المكان هو ملهم قصيدتي الجديدة التي اكتبها ..وانا اعشقه واود البقاء فيه للابد ...
فقال له الشاب هلا ألقيت عليَّ بعض الابيات من القصيدة الجديدة التي تكتبها الآن ؟ ...فقال له الشاعر : لكنها لن تكتمل بعد ولا احبذ ان القي الاشعار الغير مكتملة ....فأصر الشاب ..فوافق الشاعر واخذ يلقي عليه بعض الابيات وكانت كالآتي :
- الورود حمراء ، السماء زرقاء
- السُكّر مذاقه حلو ، مثلك تماماً يا حلو
فقال الشاب اهذا كل شيء ؟ ، قال الشاعر نعم هي لن تكتمل بعد ...قال له الشاب قل لي منذ متي وانت تكتب هذه القصيدة الغير مكتملة ..قال له 5 سنوات ..فقال الشاب ..5 سنوات في 4 ابيات رديئة !! ..
فقال له الشاعر غاضباً ، لهذا السبب لا احبذ ان القي علي احد قصائدي الغير مكتملة ...
وعندما هبط الليل ، بدأ اهل القرية بالاحتفال ، وشاركهم الشاب ..إلا انه وجد علي وجوههم الباسمة والضاحكة بعض الفتور والبرود ..وحضرت في باله ابيات الشاعر ..
وبعدها قرر الشاب المُضي في طريقه ، والبحث عن ذاته في مكان آخر ..فقال لأهل القرية بكل أدب ..انا راحل فأعذروني ..
الطريف ان اهل القرية لم يكونوا يعلمون مرادف كلمة "الرحيل" ، فعندما شرح لهم معني الكلمة ..قالو له "انت اول شخص يرحل من قريتنا " ..
فقال له الشاعر : لابد انك خاسر كبير وستندم علي رحيلك ، فلن تجد قرية مثلها ابداً ...
لماذا رحل الشاب بعد سماع قصيدة الشاعر ؟ ....
هية الجنة ليه مبتصنعش شاعر ؟
___________________________________________________
كنت مرة جالس اتفرج علي فيلم ايام الطفولة كعادتي ، واسمع حديث امي واختي عن الاشياء التي طالما يتحدثون عنها وكانت لا تثير إهتمامي علي الإطلاق - وهي سيرة الدراسة والطلاب المتفوقين وما إلي ذلك ..
ما كان يثير حيرتي - اني لم اعرف معني لكلمة "طالب متفوق" ! - ازاي يكون متفوق ؟ - هل المتفوق بالنسبة إليكم اللي بيجيب مجموع عالي في كل المواد ؟ ..هو بالطبع كذلك ..الدرجات هي مقياس التفوق "وهذه هي المعايير" ....
والذي كان بيثير الاسئلة الوجودية داخلي - هو كيف للمتفوق ان يحصل علي أعلي الدرجات في جميع المواد - كيف له ان يحصل علي أعلي درجة في مادة الرسم - وأعلي درجة في مادة العلوم - والحساب - والفيزياء - وحتي العربي والانجليزي ..
إذاً أين ميوله ؟ ...أين موهبته ..كيف له ان يكون رسام وطبيب وفيزيائي ومدرس ومحاسب واديب ومترجم ؟ ...ما هذه العبقرية ؟ ، لابد انه فَذ ...
الإنسان الطبيعي المفروض انه يكون عنده شغف تجاه شيء مُعين منذ الطفولة - مثلاً : احمد بيحب الرسم وموهوب فيه - ومحمد بيحب الحساب وموهوب فيه - وعلي بيحيب اللغة العربية وموهوب فيها ..
وبالتالي احمد سوف يدرس الفنون الجميلة ويصبح فنان - ومحمد هندسة او علوم - وعلي آداب او إعلام او اياً كان ...
او من الممكن ان يكون لدي احمد شغف في عدة اشياء مختلفة ويمارسها مع بعضها ...او من الممكن ان يترك احمد الدراسة المنهجية ويسلك الطريق الصعب ..بممارسته لما يحب مثلاً عن طريق التعليم الذاتي او عن طريق الانترنت مثلاً ...
ولكن ما كان يحدث ان المتفوق هذا كان يستطيع ان يحصل علي اعلي الدرجات في شتي المجالات ...
ثم بطبيعة الحال عندما يكبر يدخل كلية الهندسة او الطب ! ..طبعاً لانه مش عايز يكون مهندس او طبيب ولكن لانه جاب مجموع عالي ..
فكنت بقول لنفسي "لابد ان هذا النظام التعليمي في ازهي عصور التخلف والرجعية ! ..كيف لشخص واحد ان يحصل علي اعلي الدرجات في كل المواد !! - لابد انه آلة - لابد انه يذاكر كثيراً - لا اعتقد انه ذكي او موهوب - هو فقط يذاكر ويحفظ كثيراً"..
لماذا لا يدخل او يتجه إلي اي مجال تنفع فيه تلك القدرات التي يملكها من الحفظ والمذاكرة ؟ ، ممكن ان يصبح معلم او دكتور جامعة ...
اما بالنسبة إليّ - ما كان يميّزني اني لم اكن احب المذاكرة وانما فقط الفهم والتطبيق ..ولكن واجهت المشاكل مع هذه الطريقة إبتدائاً من الإعدادية ، لانها كانت بالطبع تحتاج إلي المذاكرة والحفظ الكثير ..إلي جانب انشغالي بالافلام الجنسية بالطبع ...
اتذكر اني كنت ممن يُطَلق عليهم "طالب متفوق" وكان فخ للاسف وقعت فيه ، حيث اصبحت مطالباً امام الجميع بالتفوق " اقصد المذاكرة والحفظ" وهو ما لا اطيقه ... حتي وصلت إلي المرحلة الثانوية فقررت ألا اكون كذلك - لاني ادركت حقيقة ومعني تلك الكلمة ..وبالطبع هذا القرار لم يعجب أهلي فدخلت في صراعات ليس لها اول من آخر ...
لم يكن بمقدوري ان اقول لهم "اصل انا مش عايز ابقي متفوق ، مش عايز اذاكر - مش عايز احفظ - مش عايز ابقي مهندس او دكتور خاصةً بعد الانطباع الذي تركته لديهم وهو اني صاحب مخ نضيف وذكي من صغري ..
وكانت ببساطة حجتهم اقوي "لماذا لا تستغل "دماغك" في المذاكرة او لكي تصبح طبيب او مهندس ؟ ...
ماعلينا - نرجع لموضوعنا : بعد ما استمعت للمحادثة بين اختي وامي حين قالت اختي لأمي : هل تعلمين "ان الطالب المتفوق "احمد " الذي حدثتك عنه قبلاً - قام بكتابة موضوع تعبير اثار إعجاب الجميع - وقالت عنه أبلة نجيّة انه ولد متميز وصاحب اسلوب ادبي فذ - يستحق ان يحصل علي شهادة تقدير ..لقد سمعت الموضوع الذي كتبه يا أمي - لقد استخدم بعض المفردات التي يستخدمها الادباء والشعراء - كم هو عظيم هذا الولد يا امي ..وعندما بدأت اختي بإلقاء بعض الكلمات والاسلوب الذي اسموه بالفذ علي مسامعنا - لم اتعجب كثيراً - فقد اعتدت علي مثل تلك الكلمات في الكتب وكنت بدوري اكتب مثلها ....بالطبع ردت امي علي اختي : ياريت ابني كان كدا ...
وقتها عرفت ان فرصة اي "مُبدع" عربي في النجاح اسهل بكثير عن اي مُبدع آخر في العالم ...
لن اخوض في تفاصيل ...
_______________________________________________
كنت اعتدت علي الكتابة منذ صغري ، لا اعلم لماذا ، ولكن كلما وقعت ورقة في يدي ، اظل اكتب فيها ما يخطر ببالي ، والغريب اني لم اكن اريد ولو للحظة واحدة ان اصبح "كاتباً" - وحتي الآن ...انا فقط شخص اعتاد ان يكتب افكاره واحاسيسه ...ربما لحزن ورثته من احد والديه ..او وحدة لم اجد لها بديل ، فقط شعورك بأنك غير قادر علي التواصل مع الاخرين رغم انك "شخص" إجتماعي بالنسبة لكثير من الناس كفيلة بأن تجعلك تكتب ...
لا اذكر اني يوماً بحت لأحد بما اشعر ...إلا مرات قليلة وبعدها ندمت ...وهذا كان اكبر دافع لي لكي اكتب ..
بمناسبة ابلة نجية ،في مرة من المرات - كلفتنا ابلة نجية بأن نكتب قصة قصيرة من تأليفنا - اثارت تلك الفكرة إعجابي - واردت ان اثبت اني ايضاً ذو مهارات ادبية - وانني لا اقل شيئاً عن هذا الفتي الذي تحدثت عنه امي واختي ...
من الطبيعي ان تحكم عليًّ في مثل هذا الموقف بالغيرة ؟ ، لماذا اصلاً اثبت لأحد اي شيء ؟ ، ولكن هكذا تربينا نحن العرب ...علي الغيرة من زملاء الفصل ...وهكذا علمتني مدرستي ...
اخذت اكتب واكتب طوال الليل - افكر واجتهد - واسترجع بعض المفردات التي كنت قد سمعتها من التلفاز بوجه عام - ومن افلام الكارتون بوجه خاص - تعبت كثيراً - لا اذكر اني تعبت في شيء طوال الدراسة في حياتي سوي مرتين ...
كانت إحداهم هي التي اقصصها عليكم الآن واخري عندما كنت في الثانوية العامة واخبرني استاذي العزيز استاذ علم النفس والفلسفة ان الوزارة افتعلت خطأ ما لطلاب العلمي الذين يدرسون علم النفس بدلاً من الاحصاء - وبسبب هذا الخطأ لن يكون لك سوي يوم واحد لتذاكر فيه منهج علم النفس كله - وانا كنت احب علم النفس والفلسفة جداً ، واردت ان احصل علي الدرجة النهائية فيه - وبالطبع حصلت عليها "في الثانوية العامة - وبمذاكرة يوم واحد او "نصف يوم علي ما اعتقد" ..فقد كانت مادتي المفضلة ..
غير كدا مكنتش بتعب نفسي ابداً - وكنت بخلص من السنة الدراسية وامتحن "بالفهلوة - والفهم" وبدون حفظ او مذاكرة ...
المهم اني تعبت في كتابة القصة وملئت الكراسة كلها بتلك القصة التي كلفتنا إياها أبلة نجيّة - وبعد ذلك اخذت الكراسة تاني يوم وذهبت إلي المدرسة وانا متشوّق لكي اعرض قصتي علي ابلة نجية ..
ولكن ما حدث انها لم تقرئها بتمعن - بل انها لم تقرئها اصلاً "علي ما اعتقد" ....ونظرت بإستخفاف إلي الكراسة - وصححتها بشكل مستهتر وكأنها ليست القصة التي امضيت فيها ساعات طويلة بالنسبة لطفل في مثل سني ، وإنما إحدي الواجبات الدراسية المملة إيّاها - وبنظرات غير مبالية - قالت "ليه بتطول كدا ؟ انتا مليت الكراسة كلها ، اختصر بعد كدا " ..علمت وقتها اني كتبت قصة رديئة ..وكانت المرة الاولي التي اشعر فيها بتلك الفكرة الجديدة "وهي ان العالم لا يبالي بك علي الإطلاق" ...تجاهل ساعات من التعب والكتابة هي البداية فقط ...ادركت عدت اشياء وقتها ...
كلما تذكرت ذلك الموقف ، تذكرت الشاب الذي ترك الجنة عندما سمع الشاعر الذي امضي 5 سنوات ليكتب "الورود حمراء والسماء زرقاء" ....وافتكر كلماتي التي كتبتها " المبدع العربي عنده دايماً احسن فرصة في النجاح "...
وأسئل نفسي ما هو الدافع للإبداع ؟.. هل هو فقط التعبير عن ما بداخلك ؟ ، ام مجرد محاولات لنشر رؤية ما او فلسفة ما ؟ او تغيير عادة إجتماعية ما ..
ثم اضفت بعض الكلمات علي مقولتي: "المبدع العربي عنده دايماً احسن فرصة في النجاح واوحش فرصة في الفشل" ...
ما بين الشغف والإيمان بالفن والثقافة - التعقيدات التي نضفيها علي حياتنا بسبب شعورنا بالملل ...
والآلام والصراعات التي هي حِكر علينا وملازمة لنا ...كفيلة بصناعة اعظم مبدعين ...
بس محدش عارف ميزة "البلاد" الغير مستقرة والمليانة مشاكل ...
______________________




