لنتحدث قليلاً عن الحلال والحرام ...
كنت اجلس كعادتي في احدي المقاهي وسألني احد الاصدقاء "هية المزيكا حرام ياحُسني ؟" ..
السؤال في تكوينه خاطيء تماماً ، والأوّلي ان يكون "هية المزيكا حلال ؟" ...
هذه البداية قد تكون نهاية لهذا المقال ، اذا استطعت فقط ان تستنبط "المقصود" من السؤال الثاني ...وبذلك لا تحتاج إلي قراءة الباقي ..
____________
لندخل إلي الموضوع ، مبدئياً كلامي لن يعجب اثنان ، المتديّن وبديهياً لن يقبل هذا النمط الفكري البتة ، وسيأتي بألف دليل ودليل ليثبت حجته ...وايضاً من يكره الفلسفة فسيجد الكلام كله "مجعلص" .....وانا لا اجد ادني مُشكلة معهم ، بل علي العكس ...احترم آراءهم ...لانني لا اكتب بحثاً عن صواب او خطأ الافكار المطروحة ...وانما فقط احاول طرح موضوع حسّاس كهذا للنقاش العام من باب الخروج من تلك الدائرة المُغلقة التي طالما قيّدتنا ...ومحاولة لإعادة صياغة بعض الافكار المتوارثة بحكم التقاليد الدينية والمجتمعية ..
كما ان السؤال عن حرمانية شيء جميل "كالمزيكا والفن" يثير غضبي جداً ...
لنترك مسألة ما اذا كانت "المزيكا" حرام ام حلال ، ولندخل بعمق في ما هو أعمق من ذلك "الحلال والحرام" نفسه ..
سوف نناقش الحلال والحرام من الناحية الوجودية الاسلامية ...والتي بالطبع تقع بموازاتها "ان الشريعة التي لا تمنح الانسان شيئاً ، فإنها ليست حقيقة" ...وان تلك النظرة الدينيه تحيل الشريعة إلي محددات ثلاث وهي "الخير والحق والجمال" ..
كل ما هو خير ، وحق ، وجميل ..هو بالطبع شرعي ...وكل ما هو شر ، باطل ،و قبيح هو غير شرعي ...
ما يمّيز الفقه الوجودي او النظرة الوجودية للنصوص الدينية عن الفقه التقليدي الذي لا يعترف سوي بال"نصوص" ، ان الفقه الوجودي يحيل مسئلة الحلال والحرام إلي الوجود ..وما يحال إلي الوجود يُحال ايضاً إلي القلب ...اذ يمكنك عن طريق القلب ان تميّز المحددات الثلاث التي ذكرتها ..وبذلك تحيل ما هو شرعي إلي قلبك ...وتترك الامر في تقييم الفعل في قبحه او جماله رجوعاً إلي مفردة الوجود او إلي الطبيعة ودلالتها ..وهو ما يعطي لهذا المفهوم منزلة الاس المعرفي في التشريع ...سواء في الحلال والحرام او بديلهما ...لذا كانت آيتنا في الفقه الوجودي هي "أفمن يخلق كمن لا يخلق" المعتمدة علي الوجود ..وليس آية الفقه التقليدي المعتمدة علي المعرفة "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ..
ما احاول ان اشير إليه في مقارنة الفقهين الوجودي والتقليدي المعتمدين علي الآيتين التي ذكرتهما ... ان ما يحقق الوجود هو "شرعي" ، وليس ما يؤكده النص ..لان المعرفة في الاية الثانية لدي الكهنوت... والمعرفة هنا هي النص لا غير ..
ما يميّز الوجودي انه حياتي ، لانتمائة لغوياً للارض والانسان وحياته ..وهو يحدد علاقة الانسان بالمحيط المسمي "الحياة" ...
بمعني اسهل "ان ما يحقق الوجود فهو قريب للانسان ، وما يسلبه منه بعيداً عنه ..كما انه بعيداً ايضاً عن النص وهذا ما سأشرحه في الفقرة التالية :
نجد ان النبي لا يعود إلي نصاً ما ـ قانونه انسانوي - نصه هو وجوده ..وهذا ما جعل فعله يمثّل نصاً بذاته يتخذه رجال الدين من بعده قانوناً ..لذا تجد ان النبي كان يصدر في قيمه الكُبري "افعاله التي تعد نصوصاً الآن" بدون تدخل من الله ..وانما ذاته تكفيه ...ولذلك فهو لا ينطق عن الهوي ..اذ ان كل افعال النبي كانت إنسانوية ووجودية يحيلها إلي قلبه وبالتالي فهي بطبيعة الحال محالة إلي الله وكأنه ينطق عنه ...قد تختلف معي في هذه الفقرة ومضمونها وكيف اني أحلت افعال النبي إلي مقاصد الله ..ما اقصده ان النبي يفعل كل ما هو يحقق ذات الانسانية وليس ما يحقق ذات الله ، لان الله لا يحتاج إلي ان يحقق ذاته بنا او بالنبي ..وذلك ما سيتم شرحه لاحقاً ...
المُهم في هذا كله اننا نأخذ أحكامنا عن النبي ، ولكن النبي نفسه لم يفعل ذلك عن أحد ..وهذه قمة الوجودية ...بحيث تكون قاعدته الاساسية في التشريع هي ان كل ما لا يمنح وصالاً للمعني سواء افعال ، ظواهر ، مواقف ، فنون ..فهو قبيح عدمي ..وكل قبيح في شرعة النبي هو حرام ...لذلك فإن الاحكام التي لا تحقق معني وجودي للذات ولا تحقق وجوداً ولا تؤثر بشكل اكمل واجمل في الانسانية ، فهي فطرياً باطلة حتي لو وُجد ألف نص ونص ...لان النبي ونصوصه جاءو لاجل ذلك المعني الوجودي للذات وتكاملها ...وتشابهاً بالإله ...
بمعني ان الانسان بالوجود يتكامل ، كما ان الامر المُجدي للذات هو حلال مهما قال رجل الدين ومسجده بحرمانيته ...
ويمكننا قياساً علي ذلك ان نستعير عن منطق المدرسة التعبيرية في "الفن" مقولة "علينا ان ننسي كل القوانين ، روحنا وحدها الانعكاس الحقيقي للعالم" ...
________
تحليل وتحريم الفعل والشريعة بوجه اعم عند بعض المذاهب ورجال الدين ليس إلا قانوناً للحرمة والحرام والتحريم... هذا ما اسميه بالشريعة الكهنوتية والفقه التقليدي ...كانت الاصالة معهم في التشريع هي التحريم او قائمة علي الحرمة ...عكس اصل النص الذي يقولون به نقلياً عن النبي في حديثه " كل شيء لك حلال حتي تعرف انه حرام" ..ايضاً في نص اخر "واحل إليكم اكثر ما حرّم عليكم " ...
ان الحلال والحرام او الشريعة ليست سوطاً او قيداً او سجناً ...ليست مُتعلقاً إلهياً، فهي لا ترتبط كما نظن بالله وألوهيته ...وانما متعلقاً إنسانياً ...يرتبط بالانسان وانسانيته ...لا يريد الله ان يخلق عبيداً وانما أحراراً يعبدوه ، لا يريد الله ان يكون إلهاً بالانسان ..فهو غني عن كل ذلك ...فوجوده أصيل مُطلق وانما نحن من نستمد وجودنا المؤقت من وجوده الاصيل ...
طاعة الله بالنسبة للنبي تكون في خلق الله .. وعصيانه ايضاً يكون فيهم ..كما كانت بديهية المتصوّفة تقول "ما يخدم الخلق يخدم الحق" ...او ما يخدم الناس يخدم الله ...وهو الامر الذي قلبه رجال الدين للاسف ...
رجال الدين والمجتمع جعلو الله ملكا وسيداً ، يعاقب ويهب الانسان ، ينتقم ويأخذ المعاصي التي يقترفها الانسان بشكل شخصي وهو ليس حقيقة نسبةً إلي إولهية الله ، بينما النبي يري الانسان ابن الله ..فالحرام في حرم الذات وليس من حرم الكُتب والنصوص ...الحرام ليس متعلقاً بذات الله ولكنه متعلقاً بذات الانسان وتحقيق انسانيته ونجاته ...وهذا ما جعلني اقول في بداية مقالي ان " النبي كان يصدر في قيمه الكُبري "افعاله التي تعد نصوصاً الآن بدون تدخل من الله" ...عدم تدّخل الله هنا بالمعني الضمني وليس الحرفي ...
فكل ما يعتدي علي الانسان وانسانيته وقيّمها فهو حرام ، وليس ما يتعدي علي النصوص او ما لا يناسبها ..وايضاً ليس ما يخالف آراء رجال الدين ..ذلك بأن النبي جعل الحرام الديني هو نفسه الحرام الانسانوي وليس الحرام الكهنوتي المعبأ بالطقوس فقط ..ففي شرعة النبي كل تعدي علي الناس هو تعدي علي الله ..بل الله يقيّد حرامه بحرام الناس ، وكأن الله تابع للانسانية ...وليس كما يراه رجال الدين وكما تفرض علينا تقاليد المجتمعات الدينية المتوارثة فهم يدّعون ان الله إلها جبّاراً منتقماً ينكل بعبده ويجعله نداً له ، وفي مضمون العلاقة الموروثة بين الانسان وبين الله نفهم ان أُلوهية الله لا تتحق سوي بالانسانية ، وهذا خاطيء تماماً ولا يجوز ، بينما المعركة والصراع الدنيوي بين الحق والباطل ليس معركته سبحانه وهو في غني عنه اصلاً ، وهذا يزيد الله عظمة ، بل ان صح التعبير فإن عظمة الله مُطلقة لا تزيد كما بالطبع لا تنقص ، وانما المعركة معركة إنسان وتحقيق انسانية ، لا يحرّم الله شيئاً او يسميه معصية إلا لان فيه ضرر علي الانسان وليس علي الله بالطبع ..ومن يتعمّق ويمعن النظر في المحرّمات التي حرّمها الله علينا سيجد انها كلها ليست جميلة كما اوحي إلينا عن طريق تقاليد المجتمع ورجال دينه ...كل المحرمات كالفضلات المكسوّة بقشرة ذهبية ...تجد في باطنها "فضلات وقاذورات" وتراها من بعيد ذهباً ..من ينظر بعمق سيجد ان ما زيّنه الشيطان له من حرام ليس إلا "قاذورات تهدم وجوده وتهين وتعبث بذاته وكيانه ..كل ما يؤدي إلي تدني الذات هو حرام من الله ...ولذلك الاحكام الدينية احكام إرشادية خاصة بمصالح الإنسان وليس مصالح الله كما يظن رجال الدين وكما يترجمون نصوصهم ...
وكأن معركة الانسان هنا في الارض تدور حول تحقيق ذات الله ، وهذا لا يصح ..بل المعركة هنا هي تحقيق ذات الانسان في الآية "ومن يتعدي حدود الله فقد ظلم نفسه" ....فالله في شرائع انبياءه ينبهنا عما يليق وما لا يليق بحرم ذواتنا وإنسانيتنا ...حرمة الانسان اهم عند الله من حرمة الكعبة وهي بيته ..في هذا يمكننا استنتاج ان الكعبة كممثل للإله في الارض هي ليست بأهمية الانسان بالنسبة لله ...
وهذا ما يحقق صحة النظرية "كل ما لا يحقق وجوداً فهو عدمي وحرام" ..
________________________________
من لم يفهم ما اشرت إليه في كلامي فلن يستطيع تحديد حرمانية او حلال بعض الاشياء كالفن والموسيقي ...
وهنا سألجيء إلي إستخدام أسلوب اكثر بساطة ، اذا وضعنا شيء كالموسيقي تحت المجهر الفقهي الوجودي الاسلامي الذي شرحته ...سنجد ان شأنها كشأن كل الافعال...ليست حراماً مطلقاً وليست حلالاً مطلقاً ...وعن طريق تطبيق النظرية المشروحة سابقاً يمكنك وضع الموسيقي والفن في مكانها الصحيح والشرعي ...
وللتوضيح اكثر وأكثر :
هل موسيقي بيتهوفن الكافر كما يطلق عليه البعض تحقق وجودك وترتقي بروحك وتجد فيها الجمال الذي يحبه الله ؟ ...
هل فن سعد الصغير المطرب الشعبي او تامر حسني وكلاهما مسلميّن تحقق ذاتك وتبنيها ام تهدمها ؟ ...
اذا استطعت الرد علي تلك الاسئلة فيمكنك ان تلجأ إلي قلبك ولا تحتاج إلي نصوص واحاديث نبوية تم العبث بها بشكل كهنوتي لتصبح اشياء تخالف حقيقة وجودية في القرآن ....
اصبحت اشعر الآن بأن رجل الدين الاسلامي يقول لنا :
انت مُسلم ! ، إذاً كل ما هو خارج مسجدي هذا فهو حرام ، كل ما هو جميل ويشغل عن الله فهو ايضاً حرام ، كل شيء حرام حتي يثبت انه حلال ، وقد نسي ان الله في الانسان وفي الجمال وفي الطبيعة ...او كما يسميه البعض وحدة الوجود والموجودات ...
لا يمكننا الاستعانة بمثل تلك النظرية او النظرة السابقة لإختلافها مع نصوص صريحة في القرآن ولكنها كفيلة بهدم قوانين كهنوتية فرضتها علينا الشريعة التقليدية الجامدة والفاقدة للمنظور الوجودي ...
_____
وهنا قد نصل إلي آخر سؤال : هل يحقق الفن والموسيقي المحددات الثلاث التي ذكرتها ؟ ...الخير والحق والجمال ...بالاستعانة بالاس البديهي "الوجود" ..وبإحالة الاجابة إلي القلب ...ستعلم ان الموسيقي هي شأنها كشأن اي شيء لم يتم ذكره في القرآن بشكل صريح ..فهو بالطبع حلال حتي تجد منه ما يخالف "الوجود" وما يفسد الذات الانسانية ...
اظن اننا جميعاً نعلم ما هو الفن الحقيقي الذي يحقق ذواتنا ويُشير إلي الجمال وما يهدم ذواتنا ويحقق القبح ويُشير إلي الماديات والشهرة والمال ....
او بمعني ابسط يخرج من فم النبي وقد جعل الله كلماته بسيطة ذات عمق كبير "استفتي قلبك" او كما قال "عليه الصلاة والسلام " ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق